فصل: حَذْفُ الْمَفْعُولِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.حَذْفُ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ:

يَقَعُ فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ:
أَحَدُهَا: الصلة، كقوله تعالى: {هذا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}.
الثَّانِي: الصِّفَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نفس شيئا} أَيْ فِيهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فيه إلى الله} وَلِذَلِكَ يُقَدَّرُ فِي الْجُمَلِ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْأُولَى لِأَنَّ حُكْمَهُنَّ حُكْمُهَا، فَالتَّقْدِيرُ: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ ينصرون} فِيهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْأَخْفَشُ: حُذِفَتْ عَلَى التَّدْرِيجِ أَيْ حُذِفَ الْعَطْفُ فَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ فَحُذِفَ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ حُذِفَا مَعًا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ.
وَقِيلَ: عُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ أَوَّلًا اتِّسَاعًا وَهُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ.
وَجَعَلَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا}، أَيْ مِنْهُ وَقَوْلَهُ: {مَا لِلظَّالِمِينَ من حميم ولا شفيع يطاع} أَيْ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْهُ.
وَفِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّ (يُغْنِي) جُمْلَةٌ قَدْ أُضِيفَ إِلَيْهَا اسْمُ الزَّمَانِ وَلَيْسَتْ صِفَةً.
وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ عَوْدَ ضَمِيرٍ إِلَى الْمُضَافِ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا الظَّرْفُ غَيْرُ جَائِزٍ حَتَّى قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: فَإِنْ قُلْتَ أَعْجَبَنِي يَوْمٌ قُمْتُ فِيهِ امْتَنَعَتِ الْإِضَافَةُ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ حِينَئِذٍ صِفَةٌ وَلَا يُضَافُ مَوْصُوفٌ إِلَى صِفَتِهِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ وَهَذَا مِمَّا خَفِيَ عَلَى أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ {مَا للظالمين من حميم} صِفَةٌ لِيَوْمٍ الْمُضَافُ إِلَيْهَا الْأَزْمِنَةُ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ لَا تَقَعُ صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنْهُ ثُمَّ حُذِفَ الْعَائِدُ المجرور (في) كما يحذف من الصفة.
الثالث: الخبر، كقوله تعالى: {وكل وعد الله الحسنى} في قراءة ابن عامر.
الرابع: الحال.

.تنبيه:

(عن ابن الشجري في تفاوت أنواع الحذف).
قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: أَقْوَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْحَذْفِ الصِّلَةُ لِطُولِ الْكَلَامِ فِيهَا لِأَنَّهُ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ نَحْوَ: جَاءَ الَّذِي ضَرَبْتُ وَهُوَ الْمَوْصُولُ وَالْفِعْلُ وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ ثُمَّ الصِّفَةُ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَتَى بِالصِّفَةِ لِلتَّوْضِيحِ ثُمَّ الْخَبَرِ لِانْفِصَالِهِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَحْكُومٌ عليه.
وَوَجْهُ التَّفَاوُتِ أَنَّ الصِّفَةَ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْخَبَرِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ وَصِلَتَهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ وَلِهَذَا لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا وَالصِّفَةُ دُونَهَا فِي ذلك ولهذا يكثر حذف الموصوف وإقامة الصفةمقامه وَالْخَبَرُ دُونَ ذَلِكَ فَكَانَ الْحَذْفُ آكَدَ فِي الصِّلَةِ مِنَ الصِّفَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ شَيْئَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى الْحَذْفِ الصِّفَةُ تَسْتَدْعِي مَوْصُوفًا وَالْعَامِلُ يَسْتَدْعِيهِ أَيْضًا.
وَيَسْتَحْسِنُ ابْنُ مَالِكٍ هَذَا الْكَلَامَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى الْحَالِ لِرُجُوعِهِ إِلَى الصِّفَةِ.

.حَذْفُ الْمَفْعُولِ:

وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مَعَ الْحَذْفِ فَيُنْوَى لِدَلِيلٍ وَيُقَدَّرُ فِي كُلِّ موضع ما يليق به كقوله تعالى: {فعال لما يريد} أي يريده.
{فغشاها ما غشى} أَيْ غَشَّاهَا إِيَّاهُ.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يشاء ويقدر}.
{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا من رحم}.
{وسلام على عباده الذين اصطفى}.
{أين شركائي الذين كنتم تزعمون}.
وَكُلُّ هَذَا عَلَى حَذْفِ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ مُرَادٌ حُذِفَ تَخْفِيفًا لِطُولِ الْكَلَامِ بِالصِّفَةِ وَلَوْلَا إِرَادَةُ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الضَّمِيرُ لَخَلَتِ الصِّلَةُ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَكَانَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ لَهُ وَاقْتِضَاءُ الصِّلَةِ إِذَا كَانَ الْعَائِدَ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عملت أيديهم} في قراءة حمزة والكسائي بغير هاء أَيْ مَا عَمِلَتْهُ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ فَـ: (مَا) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ لِلْعَطْفِ عَلَى (ثَمَرِهِ).
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) نَافِيَةً وَالْمَعْنَى لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَلَمْ تَعْمَلْهُ أَيْدِيهِمْ فَيَكُونُ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَكُونُ الْهَاءُ مُرَادَةً لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْصُولَةٍ.
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ويشرب مما تشربون} وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ (شَرِبَ) يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ.
وَالْغَرَضُ حِينَئِذٍ بِالْحَذْفِ أُمُورٌ:
مِنْهَا: قَصْدُ الِاخْتِصَارِ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرَائِنِ وَالْقَرَائِنُ إِمَّا حَالِيَّةٌ كَمَا فِي قوله تعالى: {أرني أنظر إليك}، لِظُهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ أَرِنِي ذَاتَكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَابَ الْمُوَاجَهَةَ بِذَلِكَ ثُمَّ بَرَاهُ الشَّوْقُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَ لِيَأْتِيَ بِهِ مَعَ الْأَصْرَحِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ هَذَا الْمَطْلُوبُ الْعَظِيمُ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ إِجْلَالًا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَى أَنْ تأجرني} الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ حُذِفَ مَفْعُولُهُ أَيْ تَأْجُرُنِي نَفْسَكَ.
وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يصدر الرعاء} فَمَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الدَّالِ مِنْ {يُصْدِرَ} فَإِنَّهُ حَذَفَ الْمَفْعُولَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عرفات} أَيْ أَنْفُسُكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يومكم هذا} أَيْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ.
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذريتي} أَيْ نَاسًا أَوْ فَرِيقًا.
وَقَوْلُهُ: {فَادْعُ لَنَا ربك يخرج لنا} أَيْ شَيْئًا.
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الأرض والسماوات} أي غير السموات.
وَقَوْلُهُ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَيْ سَمُّوهُ اللَّهَ أَوْ سَمُّوهُ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تُسَمُّوهُ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ الْمُتَعَدِّي لِوَاحِدٍ لَزِمَ الشِّرْكُ إِنْ كَانَ مُسَمَّى اللَّهِ غَيْرَ مُسَمَّى الرَّحْمَنِ وَعَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ كَانَ عَيْنُهُ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ الِاحْتِقَارِ كَقَوْلِهِ: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} أَيِ الْكُفَّارَ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّعْمِيمِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يؤمنون} وكذا {ما كانوا مؤمنين} وَكَثِيرًا مَا يَعْتَرِي الْحَذْفَ فِي رُءُوسِ الْآيِ نحو: {لو كانوا يعلمون} و: {لقوم يشكرون}.
{أفلا تسمعون}.
{أفلا تبصرون}.
{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وما يعلنون}.
{إنما نحن مستهزئون}.
{فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون}.
وَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الْغَرَضُ إِثْبَاتُ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لِفَاعِلٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِغَيْرِهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دار السلام} أَيْ كُلُّ أَحَدٍ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ عَامَّةٌ وَالْهِدَايَةَ خَاصَّةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وزنوهم يخسرون} فَكَالَ وَوَزَنَ يَتَعَدَّيَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِاللَّامِ وَالتَّقْدِيرُ: كَالُوا وَوَزَنُوا لَهُمْ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ (هُمْ) مَنْصُوبًا فِي الْمَوْضِعِ بَعْدَ اللَّامِ هُوَ الظَّاهِرُ وَقَرَّرَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ، قَالَ: وَأَخْطَأَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ (هُمْ) ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ أُكِّدَتْ بِهِ الْوَاوُ كَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِكَ خَرَجُوا هُمْ فَـ: (هُمْ) عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ عَائِدٌ عَلَى الْمُطَفِّفِينَ.
وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا القول أمران:
أحدهما: عدم ثبوت الألف فِي (كَالُوهُمْ) وَ: (وَزَنُوهُمْ) وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَأَثْبَتُوهَا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ كَمَا أَثْبَتُوهَا في قوله تعالى: {خرجوا من ديارهم} {قالوا لنبي لهم} وَنَحْوِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِ النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ فَالْمَعْنَى: {إِذَا اكتالوا على الناس يستوفون} وَإِذَا كَالُوا لِلنَّاسِ أَوْ وَزَنُوا لِلنَّاسِ يُخْسِرُونَ.
وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أَيْ فِي الْمِصْرِ وَعِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّ الشَّهْرَ ظَرْفٌ وَالتَّقْدِيرُ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الْمِصْرَ فِي الشَّهْرِ.
وَمِنْهَا: تَقَدُّمُ مِثْلِهِ فِي اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أَيْ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ. فَلَمَّا كَانَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي بِلَفْظِ الْأَوَّلِ فِي عُمُومِهِ وَاحْتِيَاجِهِ إِلَى الصِّلَةِ جَازَ حَذْفُهُ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أعلم}.
وقوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} أي غير السموات.
وقوله: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل}، أَيْ وَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِهِ وَقَاتَلَ بِدَلِيلِ ما بعده.
وقوله: {وأبصر فسوف يبصرون} أي أبصرهم، بدليل قوله: {وأبصرهم}.
وَسَبَقَ عَنِ ابْنِ ظَفَرٍ السِّرُّ فِي ذِكْرِ الْمَفْعُولِ فِي الْأَوَّلِ وَحَذْفُهُ فِي الثَّانِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ.
أَنَّ الْأُولَى اقْتَضَتْ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَمَّا تَضَمَّنَتِ التَّشَفِّيَ قِيلَ: (أَبْصِرْهُمْ).
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمُرَادُ بِهَا يَوْمَ الْفَتْحِ وَاقْتَرَنَ بِهَا مَعَ الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ تَأْمِينُهُمْ وَالدُّعَاءُ إِلَى إِيمَانِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِلتَّشَفِّي بَلْ لِلْبُرُوزِ فَقِيلَ لَهُ: (أَبْصِرْ) وَالْمَعْنَى: فَسَيُبْصِرُونَ مِنْكَ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلِهِ: {فهل وجدتم ما وعد ربكم}، أَيْ وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: {وما وعدنا ربنا} قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقَدْ يُقَالُ: أَطْلَقَ ذَلِكَ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَسَائِرِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ أَجْمَعَ وَلِأَنَّ الْمَوْعُودَ كُلَّهُ مِمَّا سَاءَهُمْ وَمَا نَعِيمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا عَذَابٌ لَهُمْ فَأَطْلَقَ لِذَلِكَ لِيَكُونَ مِنَ الضَّرْبِ الْآتِي.
وقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية}.
وَمِنْهَا: رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ، نَحْوَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قلى} أَيْ مَا قَلَاكَ فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِأَنَّ فَوَاصِلَ الْآيِ عَلَى الْأَلِفِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِلِاخْتِصَارِ لِظُهُورِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَهُ أَيْ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ كَمَنْ أَقْسَى قَلْبَهُ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ {فَوَيْلٌ للقاسية}.
وَمِنْهَا: الْبَيَانُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ كَمَا فِي مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَذْكُرُونَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}.
{ولو شاء الله لجمعهم على الهدى}.
{ولو شاء لهداكم أجمعين}.
{فإن يشأ الله يختم على قلبك}.
{من يشأ الله يضلله}.
{ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}.
التَّقْدِيرُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَفَعَلَ.
وَشَرَطَ ابْنُ النَّحْوِيَّةِ فِي حَذْفِهِ دُخُولَ أَدَاةِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: {فإن يشأ الله يختم على قلبك}.
{ولو نشاء لقلنا مثل هذا}.
{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مستقيم}.
وَالْحِكْمَةُ فِي كَثْرَةِ حَذْفِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمَضْمُونِ الْجَوَابِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا مَثِيلَةَ الْجَوَابِ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْإِرَادَةُ كَالْمَشِيئَةِ فِي جَوَازِ اطِّرَادِ حَذْفِ مَفْعُولِهَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي الْبُرْهَانِ وَالتَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى كَقَوْلِهِ: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نور الله بأفواههم} وَإِنَّمَا حَذَفَهُ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا مَا يدل على أنهم أمروا لكذب وَهُوَ بِزَعْمِهِمْ إِطْفَاءُ نُورِ اللَّهِ فَلَوْ ذُكِرَ أيضا لكان كَالْمُتَكَرِّرِ فَحُذِفَ وَفُسِّرَ بِقَوْلِهِ: {لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بأفواههم} وَكَانَ فِي الْحَذْفِ تَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْغَرِيبِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَمَهَّلَ فِي تَقْدِيرِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِحَسَبِ التَّقْدِيرِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كل نفس هداها} فَإِنَّ التَّقْدِيرَ كَمَا قَالَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ: وَلَوْ شِئْنَا أَنْ نُؤْتِيَ كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا لَآتَيْنَاهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُقَدِّرْ هَذَا الْمَفْعُولَ أَدَّى وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ إِلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ وَهُوَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ (لَوْ) أَنْ يَكُونَ الْإِثْبَاتُ بَعْدَهَا نَفْيًا أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لَوْ جِئْتَنِي أَعْطَيْتُكَ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجِيءٌ وَلَا إِعْطَاءٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شئنا لرفعناه بها} فَقَدَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ: فَلَمْ نَشَأْ فَلَمْ نَرْفَعْهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ: الصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: (فَلَمْ نَرْفَعْهُ فَلَمْ نَشَأْ) لِأَنَّ نَفْيَ اللَّازِمِ يُوجِبُ نَفْيَ الْمَلْزُومِ فَوُجُودُ الْمَلْزُومِ يُوجِبُ وُجُودَ اللَّازِمِ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمَشِيئَةِ وُجُودُ الرَّفْعِ وَمَنْ نَفَى الرَّفْعَ نَفَى الْمَشِيئَةَ وَأَمَّا نَفْيُ الْمَلْزُومِ فَلَا يُوجِبُ نَفْيَ اللَّازِمِ وَلَا وُجُودُ اللَّازِمِ وُجُودَ الْمَلْزُومِ. انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لفسدتا} فَإِنَّ الْمَقْصُودَ انْتِفَاءُ وُجُودِ الْآلِهَةِ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهَا وَهُوَ الْفَسَادُ.
وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَوَّلَ شَرْطًا لِلثَّانِي لِأَنَّهُمْ عَدُّوا (لَوْ) مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ وَقَدْ يَكُونُ الشَّرْطُ مُسَاوِيًا لِلْمَشْرُوطِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ وَمِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ. وَالْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ تَعْلِيلُ عَدَمِ الرَّفْعِ بِعَدَمِ الْمَشِيئَةِ لَا الْعَكْسُ.
وَأَوْضَحُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يكسبون} جَعَلَ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ لِأَنَّ كَذَّبُوا مَلْزُومُ عَدَمِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى فَأَخَذَهُمْ بِذَلِكَ مَلْزُومُ عَدَمِ فَتْحِ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَيْهِمْ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: {فَأَخَذْنَاهُمْ} لِلسَّبَبِيَّةِ وَجَعَلَ التَّكْذِيبَ سَبَبًا لِأَخْذِهِمْ بِكُفْرِهِمْ وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَادِّ وَوُقُوعِ الْأَفْرَادِ مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْخَبَّازِ وَأَمَّا مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِهِ فَذَلِكَ مِنْ خُصُوصِ الْمَادَّةِ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: الْمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ لَا تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً مَعَ أَنَّهَا تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِنَا كُلُّ إِنْسَانٍ نَاطِقٌ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مُبْطِلًا للقاعدة.